فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

1- في قوله تعالى: {عليْها تِسْعة عشر} فن الإبهام وقد تقدم الإلماع إليه في هذا الكتاب ونعيده هنا بمزيد من التفصيل لأهمية هذه الآية ولكثرة ما خاض علماء البلاغة والمفسرون فيها، فنقول: الإبهام فن من فنون البلاغة، وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يصح إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسيب وغير ذلك، ومنه نوع آخر يقع لأحد أمرين: إما لامتحان جودة الخاطر وإما لامتحان قوة الإيمان وضعفه، وهذه الآية التي نحن بصددها من هذا النوع أي امتحان قوة الإيمان وضعفه فإنه معنى {عليْها تِسْعة عشر} مبهم أشدّ الإبهام، فإن لقائل أن يقول: ما النكتة في ذكر هذا العدد؟
ولا يقال إن هذا السؤال ساقط فإنه يرد على أي عدد فرض بحيث لو قيل عليها خمسة عشر أو أحد عشر أو عشرون أو غير ذلك ورد السؤال عليه وما كان بهذه المثابة فهو ساقط لأنّا نقول: هذا فيما يرد من المخلوق الذي يدخل خبره الخلف وليس بمعصوم من الكذب أما البارئ سبحانه الذي لا يدخل خبره الخلف وإذا أخبر بشيء كان خبره على ما أخبر به فإنه إذا أخبر بعدد لا يجوز أن يقال فيه لو قال غيره ورد عليه السؤال لأنه الحق الواقع الذي لا مرية فيه وإذا كان ذلك كذلك يمكن لقائل أن يقول: ما الحكمة في جعل ملائكة العذاب على هذه العدة؟
فيكون السؤال واردا مستحقا للجواب ليزول هذا الإبهام الذي على ظاهر الكلام، هذا ونورد خلاصة لما قاله كبار الأعلام في تفسير هذا الإبهام ثم نورد بعد ذلك رأيا آثرناه على غيره ليكون في ذلك إيراد للذهن وحفز للقرأئح، على أننا لم نورد ما رأيناه غير جدير بالعناية.
أما الإمام فخر الدين بن الخطيب فقد رأى رأيا فيه كثير من السداد والحصافة قال: لما كان المكلف عبارة عن حواس ظاهرة وحواس باطنة وهي عشر وطبائع وقوى خمس وهي الهاضمة والغازية والماسكة والدافقة. وكانت هذه الأشياء هي التي تدعو إلى الاشتغال بالملاذ الدنيوية والشهوات البهيمية ودفع المضارّ البدنية عن الاشتغال بما يدني من الجنان ويباعد من النيران وكانت عدة هذه الأشياء تسعة عشر جعلت الملائكة الموكلة بتعذيب الإنسان وفق هذه العدة ليكون بإزاء كل شيء من هذه الأشياء ملك موكل باستيفاء ما يجب على ذلك الشيء الذي هو أحد الأسباب المانعة من الخير.
هذا ما ذكره الرازي وهو على وجاهته ونفاسته لا يخلو من التكلف. أما الكرخي فقد اختصر ما ذكره الرازي وزاد عليه من جهة ثانية فقال: وخص هذا العدد بالذكر لأنه موافق لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والعادية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر.
أما الأقدمون وعلى رأسهم الزمخشري فقد استنبطوا استنباطا بيانيا جميلا، قال الزمخشري: إن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن باللّه وبحكمته ويعترض ويستهزئ ولا يذعن إذعان المؤمن وإن خفي عليه وجه الحكمة كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمن وحيرة الكافر واستيقان أهل الكتاب لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من اللّه وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ولما رأوا من يسلم أهل الكتاب. وهذا على وجاهته لا يخلو من اعتراض.
أما القرطبي فلم يخرج عن الحدود السمعية ولم يلجأ إلى الاجتهاد فقال بعد كلام طويل: قلت والصحيح إن شاء اللّه أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: {وما يعْلمُ جُنُود ربِّك إِلّا هو}.
أما أبو حيان فقد أطال ودندن ووثب حينا وأسف حينا ومما نختاره من عبارته: عليها تسعة عشر التمييز محذوف والمتبادر إلى الذهن أنه ملك ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك، ونقل الرواية التي أوردناها ثم قال: وقيل التمييز المحذوف صنفا من الملائكة وقيل نقيبا ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء. ويكاد هذا يكون نفس ما قاله القرطبي.
أما رأي الرازي والكرخي فلا يخلو من دخل عليه لما فيه من التعسف والتكلف كما ترى ووجه الدخل عليه أنه يلزم أن يكون لكل إنسان مثل هذه العدة من الملائكة ولم تكن هي جملة عدة الملائكة لجهنم ولجميع من حوت من المعذبين.
أما الجواب الفني الذي يحل الإبهام حلا أدنى إلى المنطق وأقرب إلى الإقناع وأشبه ببلاغة القرآن الكريم فهو أن يقال: إنه لا مرية في أن أهل النار يزيدون على أهل الجنة بأضعاف مضاعفة ولأن المؤمنين من كل أمة عشر معشار كفارها، وقد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الجنة أن عرضها السموات والأرض فما ظنك بطولها والطول من كل شيء في معترف العادة أكثر من العرض فأهلها على هذا لا يحصيهم العد ولا يحصرهم الحد، وقد تبين أن أهل النار أضعافهم فهم إلى تجأوز الحدّ في العد أقرب وأقلّ ما يظنّ بالملائكة الموكلين بعذابهم أن تكون عدتهم وفق عدتهم ليكون بإزاء كل معذّب معذّب وهذا عدد لا نهاية له ولا لكميته، فلما أراد الحق الإخبار بعدة هذه الملائكة عدل عن ذكر عددهم الذي هو معلوم عنده، وإن تجأوز النهاية بالنسبة إلينا لئلا يخرج الكلام بكثرة الألفاظ وطول الفصول عن حد البلاغة إلى إشارة يفهم منها أن عدة هذه الملائكة عدد لا يتناهى مرتبة، فاقتصر سبحانه على ذكر آخر مرتبة الآحاد من العدد وأول مرتبة العشرات منه فإن مراتب العدد أربع آحاد وعشرات ومئون وألوف، الأصول منها الآحاد وأول مرتبته فإن نهاية مرتبة الآحاد التسعة وهي عبارة عن تكرار الواحد تسع مرات ثم ينتقل إلى ذكر العشرة التي هي أول مرتبة العشرات ثم يكررها كما كرر الواحد من العشرين إلى التسعين كما فعل في المرتبة الأولى ثم ينتقل إلى مرتبة الألوف فيكررها تكرير الواحد بلفظ الآحاد وهكذا إلى غير النهاية وإذا انتهت مرتبة الألوف عاد إلى مرتبة العشرات فقال: عشرة آلاف إلى ما لا نهاية له لا يزيد على أن يضيف إلى الألف لفظ الآحاد والعشرات فيعود إلى أصول الأعداد فدلّ ذلك على أن أصول جميع الأعداد التي لا تتناهى الآحاد وهي تسعة وأول العشرات هي العشرة فالاقتصار على ذكرهما للعرب الواضعين لهذه الأسماء يشير إلى أعداد لا نهاية لها، واستغنى عن ذكر لفظتي المائة والألف لما جاء في الكلام من المثال الذي يحتذى على مثاله والأصل الذي يقاس الفرع عليه واللفظتان يعني المائة والألف عند المخاطب معروفتان والطريق في التكرير قد وضحت.
2- في قوله: {وربك فكبر} فن طريف ابتدعه المتأخرون وأساءوا فيه، لأنه لا يأتي جيدا إلا في الندرة، أما تكلفه فيؤدي إلى إسفافه، وقد وضع له علماء البديع اسم (ما لا يستحيل بالانعكاس) وسماه بعضهم (القلب) وبعضهم الآخر سماه (المقلوب المستوي) وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول كان الحاصل هو هذا الكلام عينه وهو قد يكون في النظم وقد يكون في النثر أما في النظم فمنه قول القاضي الأرجاني:
مودته تدوم لكل هول ** وهل كلّ مودته تدوم

وقد يكون ذلك في شطر بيت كقول القائل:
ولما تبدى لنا وجهه ** أرانا الإله هلالا أنارا

والشاهد في المصراع الثاني أما في النثر فقال الله تعالى: {كُلٌّ فِي فلكٍ}، {ربّك فكبِّرْ} ويحكى عن العماد الكاتب أنه لقي القاضي الفاضل يوما وهو راكب فرسا فقال له: سر فلا ركبا بك الفرس، فقال له القاضي: دام علا العماد، وهذا كله مستاغ لا تكلف فيه فلذلك أتى مستملحا جاريا في حدود الطبع، أما ما تكلفوه فقد ضربنا عنه صفحا لأنه لا يمت إلى البلاغة بأي نسب.
3- في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} إن أريد الثياب الحقيقة الظاهرة على البدن فالكلام جار على الحقيقة وليس فيه شيء من فنون البلاغة لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة وإن أريد القلب كان الكلام كناية على حد قول امرئ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة ** فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي

أي قلبي من قلبك وقيل كنى عن النفس بالثياب، قال عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ** ليس الكريم عن القنا بمحرم

وقيل كنى بها عن الجسم، قالت ليلى وقد ذكرت إبلا:
رموها بأثواب خفاف فلا نرى ** لها شبها إلا النعام المنضرا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.

.[المدثر: الآيات 32- 56]

{كلاّ والْقمرِ (32) واللّيْلِ إِذْ أدْبر (33) والصُّبْحِ إِذا أسْفر (34) إِنّها لإِحْدى الْكُبرِ (35) نذِيرا لِلْبشرِ (36) لِمنْ شاء مِنْكُمْ أنْ يتقدّم أو يتأخّر (37) كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ (38) إِلاّ أصْحاب الْيمِينِ (39) فِي جنّاتٍ يتساءلون (40) عنِ الْمُجْرِمِين (41) ما سلككُمْ فِي سقر (42) قالوا لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين (43) ولمْ نكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين (44) وكُنّا نخُوضُ مع الْخائِضِين (45) وكُنّا نُكذِّبُ بِيوْمِ الدِّينِ (46) حتّى أتانا الْيقِينُ (47) فما تنْفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين (48) فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين (49) كأنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتنْفِرةٌ (50) فرّتْ مِنْ قسْورةٍ (51) بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُؤْتى صُحُفا مُنشّرة (52) كلاّ بلْ لا يخافُون الْآخِرة (53) كلاّ إِنّهُ تذْكِرةٌ (54) فمنْ شاء ذكرهُ (55) وما يذْكُرُون إِلاّ أنْ يشاء اللّهُ هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ الْمغْفِرةِ (56)}.
{قسْورةٍ} القسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها وقيل: الأسد يقال: ليوث قسأور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وفي وزنه الحيدرة من أسماء الأسد، وفي المختار: القسور والقسورة: الأسد. وفي القاموس: والقسورة: العزيز والأسد كالقسور ونصف الليل أو أوله أو معظمه ونبات سهلي والجمع قسور والرماة من الصيادين الواحد قسور. وتعقبه شارحه التاج بقوله: قوله الواحد قسور هكذا قاله الليث وهو خطأ لا يجمع قسور على قسورة إنما القسورة اسم جامع للرماة ولا واحد لها من لفظها. وعبارة أبي حيان: القسورة الرماة والصيادون قاله ابن كيسان أو الأسد قاله جماعة من اللغويين قال:
مضمر تحدره الأبطال ** كأنه القسورة الريبال

أو الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ** أتانا الرجال الصائدون القسأور

أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره، قاله ابن الأعرابي وثعلب.

.الإعراب:

{كلّا والْقمرِ واللّيْلِ إِذْ أدْبر} {كلا} حرف ردع وزجر لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا للبشر والوأو حرف قسم وجرّ والقمر مجرور بوأو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ولا معنى لما قاله الجلال: {كلا} استفتاح بمعنى ألا. ولا لما قاله القرطبي نقلا عن الفراء إنها صلة للقسم والتقدير إي والقمر. {والليل} جار ومجرور والوأو للقسم و{إذ} ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل القسم وجملة {أدبر} في محل جر بإضافة الظرف إليها.
{والصُّبْحِ إِذا أسْفر} الوأو حرف قسم وجر والصبح مجرور بوأو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف زمان متعلق بفعل القسم المحذوف وجملة {أسفر} في محل جر بإضافة الظرف إليها.
{إِنّها لإِحْدى الْكُبرِ} الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة و{إحدى الكبر} خبر {إنها}.
{نذِيرا لِلْبشرِ} حال من إحدى الكبر وأعربها الزمخشري تمييز من إحدى الكبر على معنى أنها إحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا وننقل فيما يلي عبارتي السمين وأبي البقاء ونترك لك الخيار. وقوله تعالى: {نذيرا للبشر} فيه أوجه: أحدها أنه تمييز من إحدى لما تضمنته من معنى التعظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا فنذير بمعنى الإنذار، والثاني أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضا ولكنه نصب بفعل مقدّر قاله الفرّاء، الثالث أنه فعيل بمعنى مفعل وهو حال من الضمير في {إنها} قاله الزجّاج، الرابع أنه حال من الضمير في إحدى لما تضمنت من معنى التعظيم كأنه قيل أعظم الكبر منذرة، الخامس أنه حال من فاعل {قم فأنذر} أول السورة، السادس أنه مصدر منصوب بأنذر أول السورة، السابع أنه حال من {الكبر}، الثامن أنه حال من ضمير {الكبر}، التاسع هو حال من إحدى الكبر قاله ابن عطية، العاشر أنه منصوب بإضمار أعني وقيل غير ذلك. أما عبارة أبي البقاء فهي: قوله تعالى: {نذيرا} في نصبه أوجه أحدها هو حال من الفاعل في قوله: {قم} في أول السورة، والثاني من الضمير في {فأنذر} حال مؤكدة، والثالث هو حال من الضمير في إحدى، والرابع هو حال من نفس إحدى، والخامس حال من {الكبر} أو من الضمير فيها، والسادس حال من اسم إن، والسابع أن {نذيرا} في معنى إنذارا أي فأنذر إنذارا أو أنها لإحدى الكبر لإنذار البشر، وفي هذه الأقوال ما لا نرتضيه ولكن حكيناها والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت عليه نذيرا. أما أبو حيان فبعد أن أورد هذه الأوجه قال: قال أبو البقاء والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت نذيرا وهو قول لا بأس به. وقرئ {نذير} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي نذير.
(لِمنْ شاء مِنْكُمْ أنْ يتقدّم أو يتأخّر) {لمن} بدل من قوله: {للبشر} بإعادة الجار وجملة {شاء} لا محل لها لأنها صلة من و{منكم} حال و{أن} وما في حيّزها في موضع نصب بـ: {شاء} وفاعل {شاء} يعود على من وقيل الفاعل ضمير يعود على اللّه تعالى أي لمن شاء هو أي اللّه تعالى.
وقال الزمخشري: {أن يتقدم} في موضع الرفع بالابتداء و{لمن شاء} خبر مقدّم عليه كقولك: لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم والتأخر أن يتقدم أو يتأخر والمراد بالتقدم السبق إلى الخير والتخلّف عنه وهو كقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} انتهى، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف.
{كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} كلام مستأنف لبيان أن كل نفس رهن بما كسبت و{كل نفس} مبتدأ و{بما} متعلقان بـ: {رهينة} وجملة {كسبت} لا محل لها لأنها صلة ما و{رهينة} خبر وهي مصدر بمعنى رهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء ولو قصدت الصفة لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ** رهينة رمس ذي تراب وجندل

أأذكر بالبقيا على من أصابني ** وبقياي أني جاهد غير مؤتل

والبيتان لزياد بن مسور الحارثي وقيل لعبد الرحمن بن زيد قتل أبوه زياد فعرض عليه فيه سبع ديّات فأبى إلا الثأر، والاستفهام إنكاري والنعف بالفتح الجبل والمكان المرتفع وقيل ما يستقبلك من الجبل وكويكب جبل بعينه وفي هذا الإبدال من التفصيل بعد الإجمال ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال أي أبعد قتل أبي المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس وقيل {رهينة} بالجر بدل من {الذي} فهو اسم ملحق بالجواحد بمعنى الرهن ويقال رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب فأطلق المصدر وأريد مكانه وهو القبر والجندل الحجارة وكررت همزة الاستفهام في قوله أأذكر توكيدا للأولى لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا ويحتمل أنها داخلة على مقدّر أي أبعد أبي أفرح بالديّة والبقيا الإبقاء على الشيء أي لا أذكر بين الناس بأني أبقيت على قاتل أبي والحال إن إبقائي عليه كوني جاهدا أو مصمّم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك لأني غير محتاج إلى الحلف في تنفيذ أموري أو غير مقصر في الاجتهاد لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير.
{إِلّا أصْحاب الْيمِينِ} {إلا} أداة استثناء و{أصحاب اليمين} مستثنى قيل هو متصل لأن اللّه تعالى جعل تكليف عباده كالدين عليهم ونفوسهم تحت استيلائه وقهره فهي رهينة فمن وفى دينه الذي كلّف به خلّص نفسه من عذاب اللّه تعالى الذي نزل منزلة علامة الرهن وهو أخذه في الدين ومن لم يوف عذّب وقيل هو منقطع إذ المراد بهم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقيل الملائكة.
{فِي جنّاتٍ يتساءلون عنِ الْمُجْرِمِين} {في جنات} خبر لمبتدأ محذوف أي هم في جنات والجملة مستأنفة كأنها نشأت جوابا لسؤال نشأ من الاستثناء والتقدير فما شأنهم وحالهم وجملة {يتساءلون} خبر ثان واختار أبو البقاء أن يكون {في جنات} حالا من {أصحاب اليمين} وأن يكون حالا من الضمير في {يتساءلون} وأن يتعلق بـ: {يتساءلون} فيكون ظرفا للفعل ومعنى {يتساءلون} يسأل بعضهم بعضا و{عن المجرمين} متعلقان بـ: {يتساءلون} ولابد من تقدير مضاف أي عن حال المجرمين.
{ما سلككُمْ فِي سقر} الجملة مقول قول محذوف أي قائلين فجملة القول في محل نصب حال و{ما} اسم استفهام مبتدأ والاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم وجملة {سلككم} خبر و{في سقر} متعلقان به.
{قالوا لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين} {قالوا} فعل وفاعل و{لم} حرف نفي وقلب وجزم و{نك} فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف لأنها تحذف من مضارع كان المجزوم إذا لم يله ساكن وقد تقدم نظيره واسم {نك} ضمير مستتر تقديره نحن و{من المصلّين} خبرها.
{ولمْ نكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين} عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها.
{وكُنّا نخُوضُ مع الْخائِضِين} عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة {نخوض} خبرها و{مع} ظرف مكان متعلق بنخوض و{الخائضين} مضاف إليه أي نشرع في الباطل مع الخائضين وهذا تحذير لكل من تسوّل له نفسه أن يسرع في الإجابة عمّا لا يعلمه.
{وكُنّا نُكذِّبُ بِيوْمِ الدِّينِ} عطف على ما تقدم أيضا.
{حتّى أتانا الْيقِينُ} {حتى} حرف غاية وجر و{أتانا اليقين} فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والغاية للأمور الأربعة الآنفة.
{فما تنْفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين} الفاء عاطفة وما نافية و{تنفعهم} فعل مضارع ومفعول به و{شفاعة الشافعين} فاعل والمعنى لا شفاعة لهم وسيأتي المزيد من معناها في باب البلاغة.
{فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين} الفاء استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ و{لهم} خبر و{عن التذكرة} متعلقان بـ: {معرضين} و{معرضين} حال من الضمير المجرور باللام ووهم من جعله حالا من الضمير المستكن في الخبر لأنه عائد على ما وهي عبارة عن شيء وسبب و{معرضين} وصف للأشخاص أنفسهم فلا يصحّ كونه وصفا لأسباب الإعراض على القاعدة في أن الحال وصف لصاحبها.
{كأنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتنْفِرةٌ} الجملة حالية من الضمير المستكن في {معرضين} فهي حال متداخلة وكأن واسمها و{حمر} خبرها و{مستنفرة} نعت وقرئ في السبع بكسر الفاء وفتحها فالأول بمعنى نافرة والثاني بمعنى نفرها الأسد أو الصياد.
{فرّتْ مِنْ قسْورةٍ} الجملة نعت ثان لـ: {حمر} و{فرت} فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الحمر والتاء تاء التأنيث الساكنة و{من قسورة} متعلقان بـ: {فرت}.
{بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُؤْتى صُحُفا مُنشّرة} {بل} إضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل: فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد، و{يريد} فعل مضارع مرفوع و{كل امرئ} فاعل و{منهم} نعت و{أن} وما في حيّزها في موضع نصب مفعول به و{يؤتى} فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو و{صحفا} مفعول به ثان و{منشرة} نعت لصحفا أي منشورة غير مطويّة يقرؤها كلّ من رآها.
{كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة} {كلا} ردع عن الإرادة و{بل} إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت و{لا} نافية و{يخافون الآخرة} فعل مضارع وفاعل ومفعول به.
{كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ} {كلا} ردع عن الإعراض وإن واسمها أي القرآن و{تذكرة} خبرها.
{فمنْ شاء ذكرهُ} الفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ و{شاء} فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول {شاء} محذوف تقديره أن يذكره و{ذكره} فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة جواب الشرط والشرط وجوابه خبر المبتدأ.
{وما يذْكُرُون إِلّا أنْ يشاء اللّهُ هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ الْمغْفِرةِ} الوأو عاطفة و{ما} نافية و{يذكرون} فعل مضارع وفاعل و{إلا} أداة استثناء و{أن يشاء اللّه} المصدر استثناء من أعمّ الأحوال أطلق نفي الذكر ثم استثنى منه حال المشيئة المطلقة و{هو} مبتدأ و{أهل التقوى} خبره {وأهل المغفرة} عطف على {أهل التقوى}.